فصل: ذكر عود ابن عبد الجبار وقتله وعود المؤيد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر وفاة الحاكم وولاية ابنه هشام

وفي هذه السنة توفي الحاكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي صاحب الأندلس وكانت إمارته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر وعمره ثلاثًا وستين سنة وسبعة أشهر وكان أصهب أعين أقنى عظيم الصوت ضخم الجسم أفقم وكان محبًا لأهل العلم عالمًا فقيهًا في المذاهب عالمًا بالأنساب والتواريخ جماعًا للكتب والعلماء مكرمًا لهم محسنًا إليهم أحضرهم من البلدان البعيدة ليستفيد منهم ويحسن إليهم‏.‏

ولما توفي ولي بعده انه هشام بعهد أبيه وله عشر سنين ولقب المؤيد بالله واختلفت البلاد في أيامه وأخذ وحبس ثم عاد إلى الإمارة‏.‏

وسببه أنه لما ولي المؤيد تحجب له المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري وابناه المظفر والناصر فلما حجب له أبو عامر حجبه عن الناس فلم يكن أحد يراه ولا يصل إليه وقام بأمر دولته القيام المرضي وعدل في الرعية وأقبلت الدنيا إليه واشتغل بالغزو وفتح من بلاد الأعداء كثيرًا وامتلأت بلاد الأندلس بالغنائم والرقيق وجعل أكثر جنده منهم كواضح الفتى وغيره من المشهورين وكانوا يعرفون بالعامريين‏.‏

وأدام الله له الحال ستًا وعشرين سنة غزا فيها اثنتين وخمسين غزاة ما بين صائفة وشاتية وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وكان حازمًا قوي العزم كثير العدل والإحسان حسن السياسة‏.‏

فمن محاسن أعماله‏:‏ أنه دخل بلاد الفرنج غازيًا فجاز الدرب إليها وهو مضيق بين جبلين وأوغل في بلاد الفرنج يسبي ويخرب ويغنم فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب وهم عليه يحفظونه من المسلمين فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات وأحضروا الحطب والتبن والميرة وما يحتاجون إليه فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده فقال‏:‏ أنا عازم على المقام فتركوا له الغنائم فلم يجبهم إلى الصلح فبذلوا له مالًا ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم فأجابهم إلى الصلح وفتحوا له الدرب فجاز إلى بلاده‏.‏

وكان أصله من الجزيرة الخضراء وورد شابًا إلى قرطبة طالبًا للعلم والأدب وسماع الحديث فبرع فيها وتميز ثم تعلق بخدمة صبح والدة المؤيد وعظم محله عندها فلما مات الحاكم المستنصر كان المؤيد صغيرًا فخيف على الملك أن يختل فضمن لصبح سكون البلاد وزوال الخوف وكان قوي النفس وساعدته المقادير وأمدته الأمراء بالأموال فاستمال العساكر وجرت الأمور على أحسن نظام‏.‏

وكانت أمه تميمية وأبوه معافريًا بطن من حمير فلما توفي ولي بعده ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر فسار كسيرة أبيه وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فكانت ولايته سبع سنين‏.‏

وكان سبب موته أن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها فناول أخاه ما يلي الجانب المسموم وأخذ هو ما يلي الجانب الصحيح فأكله بحضرته فاطمأنه المظفر وأكل ما بيده منها فمات‏.‏

فلما توفي ولي بعده أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر فسلك غير طريق أبيه وأخيه وأخذ في المجون وشرب الخمور وغير ذلك ثم دس إلى المؤيد من خوفه منه إن لم يجعله ولي عهده ففعل ذلك فحقد الناس وبنو أمية عليه ذلك وأبغضوه وتحركوا في أمره إلى أن قتل‏.‏

وغزا شاتية وأوغل في بلاد الجلالقة فلم يقدم ملكها على لقائه وتحصن منه في رؤوس الجبال ولم يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار وكثرة الثلوج فأثخن في البلاد التي وطئها وخرج موفورًا فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله بقرطبة واستيلاؤه عليها وأخذه المؤيد أسيرًا فتفرق عنه عسكره ولم يبق معه إلا خاصته فسار إلى قرطبة ليتلافى ذلك الخطب فخرج إليه عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة فطافوا به وكان قتله سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ثم صلبوه‏.‏

  ذكر ظهور محمد بن هشام بقرطبة

وفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ظهر بقرطبة محمد بن هشان بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله الأموي ومعه اثنا عشر رجلًا فبايعه الناس وكان ظهوره سلخ جمادى الآخرة وتلقب بالمهدي بالله وملك قرطبة وأخذ المؤيد فحبسه معه في القصر ثم أخرجه وأخفاه وأظهر أنه مات‏.‏

وكان قد مات إنسان نصراني يشبه المؤيد فأبرزه للناس في شعبان من هذه السنة وذكر لهم أنه المؤيد فلم يشكوا في موته وصلوا عليه ودفنوه في مقابر المسلمين ثم إنه أظهره على ما نذكره وأكذب نفسه فكانت مدة ولاية المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ونقم الناس على ابن عبد الجبار أشياء منها أنه كان يعمل النبيذ في قصره فسموه نباذًا ومنها فعله بالمؤيد وأنه كان كذابًا متلونًا مبغضًا للبربر فانقلب الناس عليه‏.‏

  ذكر خروج هشام بن سليمان عليه

لما استوحش أهل الأندلس من ابن عبد الجبار وأبغضوه قصدوا هشام ابن سليمان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله فأخرجوه من داره وبايعوه فتلقب بالرشيد وذلك لأربع بقين من شوال سنة تسع وتسعين واجتمعوا بظاهرة قرطبة وحصروا ابن عبد الجبار وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك على أن يؤمنه وأهله وجميع أصحابه‏.‏

ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه وخرج إليهم فقاتلهم فانهزم هشام وأصحابه وأخذ هشام أسيرًا فقتله ابن عبد الجبار وقتل معه عدة من قواده واستقر أمر ابن عبد الجبار وكان عم هشام‏.‏

  ذكر خروج سليمان عليه أيضًا

ولما قتل ابن عبد الجبار هشام بن سليمان بن الناصر وانهزم أصحابه انهزم معهم سليمان بن الحاكم بن سليمان بن الناصر وهو ابن أخي هشام المقتول فبايعه أصحاب عمه وأكثرهم البربر بعد الوقعة بيومين ولقبوه المستعين بالله ثم لقب بالظاهر بالله وساروا إلى النصارى فصالحوهم واستنجدوهم وأنجدوهم وساروا معهم إلى قرطبة فاقتتلوا هم وابن عبد الجبار بقنتيج وهي الوقعة المشهورة غزوا فيها وقتل ما لا يحصى فانهزم ابن عبد الجبار وتحصن بقصر قرطبة ودخل سليمان البلد وحصره في القصر‏.‏

فلما رأى ابن عبد الجبار ما نزل به أظهر المؤيد ظنًا منه أنه يخلع هو وسليمان ويرجع الأمر إلى المؤيد فلم يوافقه أحد ظنًا منهم أن المؤيد قد مات‏.‏

فلما أعياه الأمر احتار في الهرب فهرب سرًا واختفى ودخل سليمان القصر وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربعمائة وبقي بقرطبة أيامًا وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفًا وأغار البربر والروم على قرطبة فنهبوا وسبوا وأسروا عددًا عظيمًا‏.‏

  ذكر عود ابن عبد الجبار وقتله وعود المؤيد

لما اختفى ابن عبد الجبار سار سرًا إلى طليطلة وأتاه واضح الفتى العامري في أصحابه وجمع له النصارى وسار بهم إلى قرطبة فخرج إليهم سليمان فالتقوا بقرب عقبة البقر واقتتلوا أشد قتال فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربعمائة ومضى سليمان إلى شاطبة ثم إن جماعة من الفتيان العامريين منهم عنبر وخيرون وغيرهما كانوا مع سليمان فأرسلوا إلى ابن عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم وأن يجعلهم في جملة رجاله فأجابهم إلى ذلك وإنما فعلوا ذلك مكيدة به ليقتلوه فلما دخلوا قرطبة استمالوا واضحًا فأجابهم إلى قتله فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربعمائة اجتمعوا في القصر فملكوه وأخذوا ابن عبد الجبار أسيرًا وأخرجوا المؤيد بالله فأجلسوه مجلس الخلافة وبايعوه وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه فعدد ذنوبه عليه ثم قتل وطيف برأسه في قرطبة وكان عمره ثلاثًا وثلاثين سنة وأمه أم ولد‏.‏

وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث متأخرة وإنما قدمناها لتعلق بعضها ببعض ولأن كل واحد منهم ليس له من طول المدة ما تؤخر أخباره وتفرق‏.‏

  ذكر عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى ملك حلب

في هذه السنة عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان ملك حلب‏.‏

وكان سببه أن قرعويه لما تغلب عليها أخرج منها مولاه أبا المعالي كما ذكرناه سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فسار أبو المعالي إلى والدته بميافارقين ثم أتى حماة وهي له فنزل بها وكانت الروم قد خربت حمص وأعمالها وقد ذكر أيضًا فنزل إليه يا رقتاش مولى أبيه وهو

وكان قرعويه قد استناب بحلب مولىً له اسمه بكجور فقوي بكجور واستفحل أمره وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في قلعة حلب وأقام بها نحو ست سنين فكتب من بحلب من أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها فسار إليها وحصرها أربعة أشهر وملكها‏.‏

وبقيت القلعة بيد بكجور فترددت الرسل بينهما فأجاب إلى التسليم على أن يؤمنه في نفسه وأهله وماله ويوليه حمص وطلب بكجور أن يحضر هذا الأمان والعهد وجوه بني كلاب ففعل أبو المعالي ذلك وأحضرهم الأمان والعهد وسلم قلعة حلب إلى أبي المعالي وسار بكجور إلى حمص فوليها لأبي المعالي وصرف همته إلى عمارتها وحفظ الطرق فازدادت عمارتها وكثر الخير بها ثم انتقل منها إلى ولاية دمشق على ما نذكره سنة ست وسبعين وثلاثمائة‏.‏

  ذكر ابتداء دولة آل سبكتكين

في هذه السنة ملك سبكتكين مدينة غزنة وأعمالها وكان ابتداء أمره أنه كان من غلمان أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة للسامانية وكان مقدمًا عنده وعليه مدار أمره وقدم إلى بخارى أيام الأمير منصور بن نوح مع أبي إسحاق فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل والعفة وجودة الرأي والصرامة وعاد معه إلى غزنة فلم يلبث أبو إسحاق أن توفي ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح للتقدم فاجتمع عسكره ونظروا فيمن يلي أمرهم ويجمع كلمتهم فاختلفوا ثم اتفقوا على سبكتكين لما عرفوه من عقله ودينه ومروءته وكمال خلال الخير فيه فقدموه عليهم وولوه أمرهم وحلفوا له وأطاعوه فوليهم وأحسن السيرة فيهم وساس أمورهم سياسةً حسنةً وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال وكان يذخر من إقطاعه ما يعمل منه طعامًا لهم في كل أسبوع مرتين‏.‏

ثم إنه جمع العساكر وسار نحو الهند مجاهدًا وجرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد وكشف بلادهم وشن الغارات عليها وطمع فيها وخافه الهنود ففتح من بلادهم حصونًا ومعاقل وقتل منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء‏.‏

واتفق له في بعض غزواته أن الهنود اجتمعوا في خلق كثير وطاولوه الأيام وماطلوه القتال فعدم الزاد عند المسلمين وعجزوا عن الامتيار فشكوا إليه ما هم فيه فقال لهم‏:‏ إني استصحبت لنفسي شيئًا من السويق استظهارًا وأنا أقسمه بينكم قسمة عادلة على السواء إلى أن يمن الله بالفرج فكان يعطي كل إنسان منهم ملء قدح معه ويأخذ لنفسه مثل أحدهم فيجتزئ به يومًا وليلة وهم مع ذلك يقاتلون الكفار فرزقهم الله النصر عليهم والظفر بهم فقتلوا منهم وأسروا

  ذكر ولاية سبكتكين على قصدار وبست

ثم إن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وحسن بين الناس وذكره وتعلقت الأطماع بالاستعانة به فأتاه بعض الأمراء الكبار وهو صاحب بست واسمه طغان مستعينًا به مستنصرًا‏.‏

وسبب ذلك أنه خرج عليه أمير يعرف ببابي تور فملك مدينة بست عليه وأجلاه عنها بعد حرب شديدة فقصد سبكتكين مستنصرًا به وضمن له مالًا مقررًا وطاعة يبذلها له فتجهز وسار معه حتى نزل على بست وخرج إليه بابي تور فقاتله قتالًا شديدًا ثم انهزم بابي تور وتفرق هو وأصحابه وتسلم طغان البلد‏.‏

فلما استقر فيه طالبه بكتكين بما استقر عليه من المال فأخذ في المطل فأغلظ له في القول لكثرة مطله فحمل طغان جهله على أن سل السيف فضرب يد سبكتكين فجرحها فأخذ سبكتكين السيف وضربه أيضًا فجرحه وحجز العسكر بينهما وقامت الحرب على ساق فانهزم طغان واستولى سبكتكين على بست‏.‏

ثم إنه سار إلى قصدار وكان متوليها قد عصى عليه لصعوبة مسالكها وحصانتها وظن أن ذلك يمنعه فسار إليه جريدة مجدًا فلم يشعر إلا والخيل معه فأخذ من داره ثم إنه من عليه ورده إلى ولايته وقرر عليه مالًا يحمله إليه كل سنة‏.‏

  ذكر مسير الهند إلى بلاد الإسلام

وما كان منهم مع سبكتكين لما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند فافتتح قلاعًا حصينة على شواهق الجبال وعاد سالمًا ظافرًا‏.‏

ولما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه وأن بلاده تملك من أطرافها أخذه ما قدم وحدث فحشد وجمع واستكثر من الفيول وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين وقد باض الشيطان في رأسه وفرخ فسار سبكتكين عن غزنة إليه ومعه عساكره وخلق كثير من المتطوعة فالتقوا واقتتلوا أيامًا كثيرة وصبر الفريقان‏.‏

وكان بالقرب منهم عقبة غورك وفيها عين ماء لا تقبل نجسًا ولا قذرًا وإذا لقي فيه شيء من ذلك اكفهرت السماء وهبت الرياح وكثر الرعد والبرق والأمطار ولا تزال كذلك إلى أن تطهر من الذي ألقي فيها فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة في تلك العين فجاء الغيم والرعد والبرق وقامت القيامة على الهنود لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وتوالت عليهم الصواعق والأمطار واشتد البرد حتى هلكوا وعميت عليهم المذاهب واستسلموا لشدة ما عاينوه‏.‏

وأرسل ملك الهند إلى سبكتكين يطلب الصلح وترددت الرسل فأجابهم إليه بعد امتناع من ولده محمود على مال يؤديه وبلاد يسلمها وخمسين فيلًا يحملها إليه فاستقر ذلك ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد وسير معه سبكتكين من يتسلمها فإن المال والفيلة كانت معجلة فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضًا عن رهائنه‏.‏

فلما سمع سبكتكين بذلك جمع العساكر وسار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم وقصد لمغان وهي من أحصن قلاعهم فافتتحها عنوةً وهدم بيوت الأصنام وأقام فيها شعار الإسلام وسار عنها يفتح البلاد ويقتل أهلها فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة‏.‏

فلما بلغ الخبر إلى جيبال سقط في يده وجمع العساكر وسار في مائة ألف مقاتل فلقيه سبكتكين وأمر أصحابه أن يتناوبوا القتال مع الهنود ففعلوا ذلك فضجر الهنود من دوام القتال معهم وحملوا حملة واحدة فعند ذلك اشتد الأمر وعظم الخطب وحمل أيضًا المسلمون جميعهم واختلط بعضهم ببعض فانهزم الهنود وأخذهم السيف من كل جانب وأسر منهم ما وذل الهنود بعد هذه الوقعة ولم يكن لهم بعدها راية ورضوا بأن لا يطلبوا في أقاصي بلادهم ولما قوي سبكتكين بعد هذه الوقعة أطاعه الأفغانية والخلج وصاروا في طاعته‏.‏

  ذكر ملك قابوس بن وشمكير جرجان

في هذه السنة توفي ظهير الدولة بيستون بن وشمكير بجرجان وكان قابوس أخوه زائرًا خاله رستم بجبل شهريار وخلف بيستون ابنًا صغيرًا بطبرستان مع جده لأمه فطمع جده أن يأخذ الملك فبادر إلى جرجان فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس فقبض عليهم وبلغ الخبر إلى قابوس فسار إلى جرجان فلما قاربها خرج الجيش إليه وأجمعوا عليه وملكوه وهرب من كان مع ابن بيستون فأخذه عمه قابوس وكفله وجعله أسوة أولاده واستولى على جرجان وطبرستان‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الأولى نقلت ابنة عز الدولة بختيار إلى الطائع لله وكان تزوجها‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكرياء بن حيويه في رجب‏.‏

في صفر منها توفي أبو الحسن علي بن وصيف الناشئ المعروف بالخلال صاحب المراثي الكثيرة وفيها توفي أبو يعقوب بن الحسن الجنابي صاحب هجر وكان مولده سنة ثمانين ومائتين وتولى أمر القرامطة بعده ستة نفر شركة وسموا السادة وكانوا متفقين‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة

  ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق

في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح وغير ذلك‏.‏

فاختلف أصحاب بختيار عليه في الإجابة إلى ذلك إلا أنه أجاب إليه لضعف نفسه فأنفذ له عضد الدولة خلعة فلبسها وأرسل إليه يطلب منه ابن بقية فقلع عينيه وأنفذه إليه‏.‏

وتجهز بختيار بما أنفذه إليه عضد الدولة وخرج عن بغداد عازمًا على قصد الشام وسار عضد الدولة فدخل بغداد وخطب له بها ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد وضرب على بابه ثلاث نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدمه وأمر بأن يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله ففعل به ذلك وخبطته الفيلة حتى قتلته وصلب على رأس الجسر في شوال من هذه السنة فرثاه أبو الحسين الأنباري بأبيات حسنة في معناها وهي‏:‏ كأنّ الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيّام الصّلات كأنّك قائمٌ فيهم خطيبًا وكلّهم قيامٌ للصّلاة مددت يديك نحوهم اقتفاءً كمدّهما إليهم في الهبات ولّما ضاق بطن الأرض عن أن يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا عن الأكفان ثوب السافيات لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحرّاسٍ وحفّاظٍ ثقات وتشعل عندك النيران ليلًا كذلك كنت أيّام الحياة ولم أر قبل جذعك قطّ جذعًا تمكّن من عناق المكرمات ركبت مطّيةً من قبل زيدٌ علاها في السّنين الذّاهبات وهي كثيرة قوله زيد علاها يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتل وصلب أيام هشام بن عبد الملك وقد

ذكر وبقي ابن بقية مصلوبًا إلى أيام صمصام الدولة فأنزل من جذعه ودفن‏.‏

  ذكر قتل بختيار

لما سار بختيار عن بغداد عزم على قصد الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة ابن حمدان فلما صار بختيار بعكبرا حسن له حمدان قصد الموصل وكثرة أموالها وأطمعه فيها وقال إنها خير من الشام وأسهل‏.‏

فسار بختيار نحو الموصل وكان عضد الدولة قد حلفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما فنكث وقصدها فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إيه وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه وقاتل معه عضد الدولة وأعاده إلى ملكه بغداد فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب فحبسه في قلعة له وسار بختيار إلى الحديثة واجتمع مع أبي تغلب وسارا جميعًا نحو العراق وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل‏.‏

وبلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما فالقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال فهزمهما وأسر بختيار وأحضر عند عضد الدولة فلم يأذن بإدخاله إليه وأمر بقتله فقتل وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم وقتل من أصحابه خلق كثير واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك وكان عمر بختيار ستًا وثلاثين سنة وملك إحدى عشرة سنة وشهورًا‏.‏

لما انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها ثاني عشر ذي القعدة وما يتصل بها وظن أبو تغلب أنه يفعل كما كان غيره يفعل يقيم يسيرًا ثم يضطر إلى المصالحة ويعود‏.‏

وكان عضد الدولة أحزم من ذلك فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها وأقام بالموصل مطمئنًا وبث السرايا في طلب أبي تغلب فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك وقال‏:‏ هذه البلاد أحب إلي من العراق‏.‏

وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار وأبو إسحاق وأبو طاهر ابنا معز الدولة ووالدتهما وهي أم بختيار وأسبابهم فسار أبو تغلب إلى نصيبين فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر وسير في طلب أبي تغلب سرية واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر ابن محمد على طريق سنجار فسار أبو تغلب مجدًا فبلغ ميافارقين وأقام بها ومعه أهله فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهم من أهله ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين فأغلقت دونه وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة وتركها وطلب أبا تغلب‏.‏

وكان أبو تغلب قد عدل من أرزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشى وغيرها من قلاعه وأخذ ما له فيها من الأموال وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها‏.‏

ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه فلم يدركه ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه وعاد إلى الموصل وسير في أثر أبي تغلب عسكرًا مع قائد من أصحابه يقال له طغان فتعسف أبو تغلب إلى بدليس وظن أنه لا يتبعه أحدٌ فتبعه طغان فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المعروف بورد الرومي وليس من بيت الملك وإنما تملك عليهم قهرًا واختلف الروم عليه ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم فطالت الحرب بينهم فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به فقدر أن أبا تغلب احتاج إلى الاعتضاد به‏.‏

ولما سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة وهم حريصون على أخذ ما معه من المال فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته فلما وقعوا عليه نادى أميرهم‏:‏ لا تتعرضوا لهذا المال فهو لعضد الدولة ففتروا عن القتال‏.‏

فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم فنزل بحصن زياد ويعرف الآن بخرتبرت وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه واستمده وقال‏:‏ إذا فرغت عدت إليك‏.‏

فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره فاتفق أن وردًا انهزم فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره وعاد إلى بلاد الإسلام فنزل بآمد وأقام بها شهرين إلى أن فتحت ميافارقين‏.‏

  ذكر عدة حوادث

فيها ظهر بإفريقية في السماء حمرة بين المشرق والشمال مثل لهب النار فخرج الناس يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه وكان بالمهدية زلازل وأهوال أقامت أربعين يومًا حتى فارق أهلها منازلهم وأسلموا أمتعتهم‏.‏

وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميرًا على الموسم ليحج بالناس وكانت الخطبة له بمكة وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين خليفته بإفريقية فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له‏:‏ نتقبل منك الموسم بخمسين ألف درهم ولا تتعرض لنا فقال لهم أفعل ذلك اجمعوا إلي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم فاجتمعوا فكانوا نيفًا وثلاثين رجلًا فقال‏:‏ هل بقي منك أحد فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد فقطع أيديهم كلهم‏.‏

وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة وغرقت كثيرًا من الجانب الشرقي ببغداد وغرقت أيضًا مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها وبلغت السفينة أجرة وافرة وأشرف الناس على الهلاك ثم نقص الماء فأمنوا‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة وله نوادر مجموعة وعمره خمس وستون سنة‏.‏

وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري وولي القضاء بها وبما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد وهو من أئمة المعتزلة ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة ويعني به قاضي قضاة أعمال الري وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقًا وليس كذلك‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

  ذكر فتح ميافارقين وآمد وغيرهما ‏

من ديار بكر على يد عضد الدولة لما عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل ميافارقين وكان الوالي عليها هزارمرد فضبط البلد وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر ثم مات هزارمرد فكوتب أبو تغلب بذلك فأمر أن يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فولي البلد ولم يكن لأبي الوفاء فيه حيلة فعدل عنه وراسل رجلًا من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيد الله واستماله فأجابه وشرع في استمالة الرعية إلى أبي الوفاء فأجابوه إلى ذلك وعظم أمره وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتيح فلم يمكنه منعه لكثرة أتباعه فأنفذها إليه وسأله أن يطلب له الأمان فأرسل أحمد بن عبيدالله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمنه وأمن سائر أهل البلد ففتح له البلد وسلمه إليه‏.وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها فافتتحها جميعها فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرحبة هو وأخته جميلة وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء ففعلوا ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميافارقين فسلموا البلد بالأمان فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه فأمنهم وأحسن إليهم وعاد إلى الموصل‏.‏

وأما أبو تغلب فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولًا إلى عضد الدولة يستعطفه ويسأله الصفح فأحسن جواب الرسل وبذل له إقطاعًا يرضيه على أن يطأ بساطه فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك وسار إلى الشام إلى العزيز بالله صاحب مصر‏.‏

كان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشًا فجرت بينهم حروب وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه عليه فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد والد الرضي إلى البلاد التي بيد سلامة فتسلمها بعد حرب شديدة ودخل أهلها في الطاعة فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب ورد باقيها إلى سعد الدولة فصارت له‏.‏

ثم استولى عضد الدولة على الرحبة وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه وهي قلعة كواشى وكانت فيها خزائنه وأمواله وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون فلما استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة ولقيه الطائع لله وجمع من الجند وغيرهم‏.‏

  ذكر ولاية قسام دمشق

لما فارق الفتكين دمشق كما ذكرناه تقدم على أهلها قسام وكان سبب تقدم قسام أن الفتكين قربه ووثق إليه وعول في كثير من أموره عليه فعلا ذكره وصيته وكثر أتباعه من الأحداث فاستولى على البلد وحكم فيه‏.‏

وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد واليًا عليه للعزيز فلم يتم له مع قسام أمر وكان لا حكم له ولم يزل أمر قسام على دمشق نافذًا وهو يدعو للعزيز بالله العلوي‏.‏

ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل منهزمًا كما ذكرناه فمنعه قسام من دخول دمشق وخافه على البلد أن يتولاه إما غلبةً وإما بأمر العزيز فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال فرحل أبو تغلب إلى طبرية‏.‏

وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش فحصر قسامًا بدمشق فلم يظفر به فعاد عنه وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة فسير من مصر أميرًا إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح فوصل إليها فنزل بظاهرها ولم يتمكن من دخولها وأقام في غير شيء فنهى الناس عن حمل السلاح فلم يسمعوا منه ووضع قسام أصحابه على سلمان فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه‏.‏

وكان قسام بالجامع والناس عنده فكتب محضرًا وسيره إلى العزيز يذكر أنه كان بالجامع عند هذه الفتنة ولم يشهدها وبذل من نفسه أنه إن قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله ومنعه من البلد فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف أن يقصد عضد الدولة الشام فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود ولا حكم له والحكم جميعه لقسام فدام ذلك‏.‏

في هذه السنة كانت زلازل شديدة كثيرة وكان أشدها بالعراق‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه وكان فقيهًا فاضلًا مهندسًا منطيقيًا فيه كل فضيلة وعمره أربع وثمانون سنة وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد‏.‏